رمز الخبر: 206236
تأريخ النشر: 01 May 2009 - 00:00

الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي

مرتضي مطهّري من الاحيائيين الذين اهتمّوا باستئناف الحركة الحضارية لهذه الأمة، وكان اهتمامه الأول في عملية الإحياء الساحة الفكرية، لأن هذه الساحة كانت مستهدفة اكثر من غيرها في إيران. فهذا البلد عاش غزوا ثقافياً غربياً منذ مطلع القرن الثامن عشر، ولذلك شمّر عن ساعد الجدّ لخوض مواجهة وتأسيس في ساحة المعرفة والمفاهيم والعادات والوعي النخبوي والجماهيري، لكنه مع ذلك لم ينس الدور الذي يجب أن ينهض به المفكر في ساحة الدفاع عن المظلومين في المجتمع.
«ملخّص» مرتضي مطهّري من الاحيائيين الذين اهتمّوا باستئناف الحركة الحضارية لهذه الأمة، وكان اهتمامه الأول في عملية الإحياء الساحة الفكرية، لأن هذه الساحة كانت مستهدفة اكثر من غيرها في إيران. فهذا البلد عاش غزوا ثقافياً غربياً منذ مطلع القرن الثامن عشر، ولذلك شمّر عن ساعد الجدّ لخوض مواجهة وتأسيس في ساحة المعرفة والمفاهيم والعادات والوعي النخبوي والجماهيري، لكنه مع ذلك لم ينس الدور الذي يجب أن ينهض به المفكر في ساحة الدفاع عن المظلومين في المجتمع. العودة إلي الحياة الإسلامية تبدأ من العودة إلي المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وتطهير الأفكار والنفوس مما علق بها من انحراف . هذا هو الأساس الذي تبنّاه كلّ المصلحين في عالمنا الإسلامي لعملهم الاصلاحي علي اختلاف اجتهاداتهم في تشخيص نوع الانحراف وترتيب الأولايات. الشهيد مطهري من أولئك الدعاة الذين نذروا أنفسهم لإصلاح المجتمع الإيراني، مبتدئاً بإصلاح المفاهيم ومحاربة الإنحرافات الفكرية، ويطلق علي هذه العملية اسم «إحياء الفكر الديني» كما سمّاها أيضاً إقبال اللاهوري من قبل. ويوضّح مقصوده من إحياء الفكر الديني بقوله: «المقصود من إحياء الفكر الديني ليس هو إحياء الدين نفسه، بل إحياء التفكير بشأن الدين، وبعبارة أخري غسل الأدمغة مما تراكم فيها من انحرافات وتشويهات بشأن الدين» (1) . نستطيع أن نفهم عِظم المسؤولية التي نهض بها الشهيد مطهري في عملية الإصلاح الفكري لو عرفنا ضخامة الجهود التي بُذلت في إيران خلال القرون الأخيرة لتشويه صورة الإسلام ولمسخ المفاهيم الإسلامية عن طريق مزجها بالمفاهيم المادية الغربية. الهزيمة التي مُني بها العالم الإسلامي أمام الاستعمار الغربي كانت هزيمة نفسية بالدرجة الأولي، وهذه الهزيمة الداخلية دفعت بكثير من المثقفين المهزومين إلي الطعن في تراث الأمة وتاريخها وأصالتها، وإلي التبعية الفكرية والنفسية لعالم المستعمرين. لقد نهض نفر من العلماء لدراسة هذه الظاهرة في العالم العربي وفي شبه القارة الهندية(2) . ولكن قلّما احتوت المكتبة العربية دراسات عن هذه الظاهرة في إيران. في اعتقادنا أن الجهودَ التي انصبّت لمسخ المفاهيم الإسلامية وتشويهها وإشاعة روح «التغرّب» و«الالتقاط» في إيران كانت أعمق وأوسع مما كانت عليه في أجزاء العالم الإسلامي الأخري، ذلك لما يتمتع به هذا البلد من علماء ومن حركة علميّة تتجه نحو الاجتهاد في مسائل الدين، ولابد أن تكون الخطة لمواجهة هذه الحركة العلمية المعمّقة في إيران عميقة ومدروسة. أول من نهض بعملية الغزو الفكري وعملية مسخ الشخصية الإسلامية في إيران دولة بريطانيا، فمنذ سنة 1600 ميلادية وضعت لإيران خطة تمثلت – كما ورد في الوثائق البريطانية – بما يلي: 1- تقوم وزارة الخارجية البريطانية بتأسيس سفارة ومؤسسات بريطانية أخري في إيران. 2- الشركات البريطانية مكلفة بتأسيس فروع تجارية وبنوك في إيران وبالسعي للحصول علي امتيازات استثمار المعادن والمناجم. 3- المستشرقون البريطانيون مكلفون بالتوجه إلي إيران ودراسة آدابها وتاريخها وفنونها. 4- علماء الآثار يتحملون مسؤولية دراسة آثار إيران وإجراء التنقيبات والحفريات فيها. وصاحب ذلك طبعاً نهب كثير من آثار إيران القيّمة. 5- المركز الماسوني الأعلي مكلّف بإرسال أفراد إلي إيران لتشكيل اللوج الماسوني في هذا البلد، وتشجيع الإيرانيين القادمين إلي بريطانيا علي الانتماء إلي الماسونية. 6- علي البريطانيين الموجودين في إيران أن يستغلوا نقاط الضعف الموجودة في إيران من رشوة وفساد وسرقة لتحقيق أهدافهم وأن يسعوا لتعميق هذه المظاهر السلبية ونشرها. 7- البريطانيون الموجودون في إيران يسعون لتقسيم إيران وإضعاف الحكومة المركزية ومحاولة الحطّ من قيمة الحضارة والثقافة الإيرانية(3) . لعلّ عملية نشر الماسونية والاستشراق في إيران كانت أكثر من الغزو العسكري والاقتصادي تأثيراً في التمهيد لاستعمار إيران والسيطرة علي مقدراتها. آثارها ملموسة في الهزيمة النكراء التي مُني بها المثقف الإيراني… هذا المثقف الذي تعلّم في أوروبا وفي جامعات إيران ليتولّي أمور بلده في مجلس الشوري والوزارات والدوائر، وليسوق بلده نحو أهداف المستعمرين، وليقدّم كل مقدسات بلده علي مذبح الطامعين والغاصبين. من أجل أن نعطي صورة أكثر وضوحاً عن الهزيمة النفسية والفكرية التي سادت المثقفين الإيرانيين نذكر بعض روّاد الماسونية والتغرّب في إيران، ونبدأ بالميرزا يعقوب خان الأرمني. عاش الميرزا يعقوب في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، ويعتبر أول رائد للتغريب في إيران، والد ملكم خان الذي سيأتي ذكره، ومن مؤسسي الماسونية في إيران، وأحد أعضاء عصابة ميرزا آقاخان نوري قاتل المصلح السياسي الإيراني المعروف «أمير كبير» ومن عملاء بريطانيا العاملين عليتجزئة أرض خراسان. فريدون آدميّت (وهو كاتب إيراني ماسوني ألف كثيراً في تاريخ المثقفين التقدميين! في إيران) يفخر بأنه عثر علي رسالة للميرزا يعقوب خان يذكر فيها أن الحل الوحيد لانتعاش اقتصاد إيران هو فسح المجال للأوروبيين أن يوظفوا رؤوس أموالهم في إيران، وتنشيط سياحة الغربيين فيها(4) . الميرزا يعقوب هذا يوجه رسالة إلي ناصر الدين شاه في حدود سنة 1290هـ، ويدعوه إلي إعادة النظر في الأحكام الدينية، ويركز علي الجهاد بالذات ويقول: إن المفهوم القديم للجهاد لم يعد له أي اعتبار الآن، ويجب تحويل مفهومه إلي شكل معاصر يرتبط بتحصيل الخير العام، مثل الجهاد من أجل دفع الفيضانات ومن أجل إنماء البلاد(5) . يأتي بعد الميرزا يعقوب خان في قيادة حركة التغريب في إيران ابنه ملكم خان، ناظم الدولة (1249 – 1326هـ .ق) ، ويحمل لقب برنس من بلاط الشاه، تولي سفارة إيران في لندن ثم في روما(6) . ويعتبر دماغ الماسونية المفكر في إيران ورائد التغريب فيها. كان بيته منتدي يجتمع فيه كل المشكوكين ومتزلزلي العقيدة من الإيرانيين مثل الشيخ محمد باقر بواناتي (معلم أدوارد براون في اللغة الفارسية) والحاجي بير زاده، وسائر المثقفين الذين تولوا فيما بعد الحركة الدستورية في إيران(7) .!! وهذا يبين لنا سبب انحراف الحركة الدستورية في إيران وسبب معارضة علماء الدين الواعين لها من أمثال الشيخ فضل الله نوري. ويتحدث ملكم خان بنفسه عن سبب تأسيس المركز الماسوني في إيران ويقول: لقد خططتُ من أجل أن أمزج بين العقلية السياسية الغربية والعقلية الدينية الشرقية، لأنني ألفيت أن تغيير إيران علي النمط الأوربي لا يتحقق، من هنا سعيت إلي تقديم فكرة التطور المادي في لفافة الدين، لكي يفهم أبناء وطني هذه المعاني جيداً، ودعوت أصدقائي والشخصيات المرموقة وحدثتهم عن ضرورة «إصلاح الإسلام»(8) ! ونري بين أعضاء المركز الماسوني الذي أسسه ملكم كتّاباً ساروا علي نفس النهج منهم «الميرزا يوسف خان» مستشار الدولة، وصاحب كتاب «يك كلمة» أي كلمة واحدة، وهو من دعاة مزج الإسلام بآخر ما أنتجته الحضارة الغربية، ويصرح بضرورة تكميل الإسلام! وتغييره وفق مقتضيات العصر! وأنه لابد من تقليد أوربا في تنظيمات إدارة البلد، وبغير ذلك لا يمكن لدولة أن يكتب لها البقاء. ويقول: بين دول الغرب تعتبر بريطانيا أول وآخر سند وصديق لنا(9) . ومن رؤوس التغريب والمسخ في إيران «فتح علي آخوند زاده» (آخوند أوف). يقول عنه فريدون آدميّت: «.. في مدرسة الأفكار الجديدة يعتبر ميرزا فتح علي آخوند زاده (1228 – 1295هـ) من المبدعين. إنه يمثل التفكير العلمي الناقد، رائد كتابة المسرحية والقصة الأوربية في الشرق، مبتكر إصلاح الخط وتغيير الحروف الهجائية في المجتمعات الإسلامية، منتقد الأدب الكلاسيكي، ورافض التقليد في كتابة التاريخ، ومن دعاة أخذ العلم والحكمة الغربية، واضع أسس التفكير القومي الإيراني، ومنتقد السياسة والدين، والمؤمن بانفصال الدين عن السياسة، وعدوّ الحكم الاستبدادي وكل حكم فردي، من أنصار المشروطة (الحكم الدستوري) العقلي، العرفي القائم علي الحقوق الطبيعية، والمنادي بالإصلاح الديني، مفكر مادي متحل بأفكار منظمة مبوّبة، ليس في نظام تفكيره تناقض أو تباين، كل ما يحمله هو أصالة المادة وسلطان العقل»(10) . وهذا النص الذي يمثل خلاصة شخصية آخوند زاده، علي لسان واحد من أنصاره والمستوعبين لحياته وأفكاره، يبين اتجاه الطبقة المثقفة أو المستنيرة! كما يسمونها، وأهدافها وآمالها، وهي: إصلاح الدين! وفق نظرة مادية(11) ، ثم إحياء القومية الإيرانية وتغيير الخط العربي واستبدال الحرف اللاتيني به، ثم الدعوة إلي النظام الدستوري، وهي دعوة لم تكن تستهدف القضاء علي الحكم الفردي بقدرما كانت ترمي إلي جعل زمام التقنين بيد عملاء الغرب، وسدّ الطريق أمام فقهاء الشريعة ومنعهم من التدخل في شؤون المجتمع. وهذا هوالذي حدا بالشيخ فضل الله نوري – كما ذكرنا – إلي إعلان المطالبة بالحكومة «المشروعة» بدلاً من الحكومة «المشروطة» التي كان ينادي بها هؤلاء المهزومون أمام الغرب، وكان يشبّه هؤلاء المتغربين بالسامري الذي أضلّ قوم موسي، وكان ينادي قائلاً: «أيّ أحمق يقبل أن يكون الكفر حامياً للإسلام؟! وملكم النصراني حامياً للدين المبين؟!»(12) . من الأسماء البارزة بين المثقفين المتغربين الإيرانيين «عبد الرحيم طالب أوف». ولد في تبريز سنة 1250هـ، وفي السابعة عشر من عمره هاجر إلي جنوب روسيا، وألف كتباً في الاجتماع والسياسة، وأرسلها إلي إيران، يبث فيها أفكاره بشأن إجراء إصلاحات في الدين! وتغيير الحروف العربية في الخط الفارسي(13) . في كتابه «مسائل الحياة» (بالفارسية) يعقد حواراً بين آقا رضا (وهو عالم دين تقدمي!) وأحمد آقا (مثقف مزود بالعلوم الحديثة) يتحدث فيه آقا رضا عن علوم الدين التي تعلمها، ويستهين بها، ويصفها بأنها «ألسنة الأموات، وأنها معلومات قد سقطت من حيّز الانتفاع وأصبحت من الخرافات!)» ثم يبدأ بتوضيح عطاء العلوم الحديثة(14) . ماذكرناه من أسماء لمثقفين متغربين إيرانيين إنما يمثل الرعيل الأول، وتبعهم رهط كبير ألّفوا في بثّ فكرة التغريب وإصلاح الإسلام (أو مسخ الإسلام) كثيراً من الكتب والمقالات، وأسسوا المحافل والجمعيات، وكان لهم أكبر التأثير علي الأدب والفكر والسياسة في إيران. يلاحظ في العقود الأخيرة من تاريخ إيران ظهور ردّ فعل بين المثقفين الإيرانيين تجاه الليبرالية الغربية، بعد أن سجّل الغرب أبشع صور مصادرة الحريات وظلم الناس واستعبادهم في بلدان الشرق الإسلامي. لكن ردّة الفعل هذه كانت كما يقول الأستاذ مالك بن نبي (رحمه الله) أشبه بصحوة إنسان لا يزال يثقل جفونه نوم عميق. فلم يتّجه هؤلاء المثقفون إلي الأصالة بعد أن صدمهم الغرب، بل اتجهوا إلي الغرب أيضاً، ولكن في إطار ماقدمه الغرب كبديل لليبرالية، وهو الاشتراكية والشيوعية. وظهر «حزب توده» ليقدم ف الفكر الماركسي اللينيني في إطار الإسلام(15) !! وظهرت تفاسير لآيات من القرآن الكريم ينحو فيها أصحابها منحي ماركسياً ثورياً!! وحتي الغيب فسروه بأنه «المراحل التمهيدية لنمو الثورة التوحيدية، وفترة حدوث التحولات الكمية»(16) . يطول بنا الحديث لو أردنا استعراض كل جهود المتغربين في إيران لبث الأفكار المنحرفة عن الدين والتشكيك في المنهج الإسلامي الأصيل، لكننا أردنا تقديم نموذج من تلك الجهود، لنفهم عظم المهمة التي أخذها علي عاتقهم دعاة الأصالة الإسلامية ودعاة إحياء الفكر الإسلامي في إيران، ومنهم الشهيد مطهري رضوان الله عليه. الشهيد مطهري واجه في عملية الإحياء مشكلتين: الأولي، مشكلة الفئة المتحركة من الشباب والمثقفين الذين يتشبعون بأفكار الغرب ليبراليها واشتراكيها، ويحملون نظرات سلبية قاتمة عن الدين وعلماء الدين وكتب الدين. والثانية، مشكلة الفئة الجامدة الهامدة من المسلمين الإيرانيين التي تفتقد كل تحرك، وتري بأم أعينها ما يضجّ به المجتمع المسلم من فساد وانحراف ، غير أنها تكل الأمر إلي الله! وتنتظر الفرج الغيبي! أهم ما نهض به الشهيد مطهري هو مكافحة الانحرافات الفكرية كمقدمة ضرورية لإحياء الدين في المجتمع، وهذا ما يؤكد عليه الإمام الخميني (قدس سره) في نعيه الشهيد مطهري إذ قال: «مطهري كان لي ولداً عزيزاً وللحوزات العلمية الدينية سنداً قوياً، وللشعب والبلد خادماً معطاء.. ومايجب أن أقوله بشأنه هو إنه قدّم خدمات جلّي للإسلام والعلم..». «إنه كان من النوادر في فهمه الإسلام ومختلف فنون الإسلام والقرآن الكريم..». «لقد قضي عمره الشريف علي طريق الأهداف الإسلامية المقدسة وقارع بشدّة الانحراف والالتقاط.. وأنا أوصي الطلبة والمثقفين الملتزمين أن لا يدَعوا كتب هذا الأستاذ العزيز يلفّها النسيان بفعل دسائس أعداء الإسلام..» (17) . الأستاذ الشهيد مطهري يوضح بنفسه أهدافه في نشاطاته الفكرية ويقول: «منذ سنة 1330 هجرية شمسية (استشهد في 1358هـ .ش / 1979م) حيث مسكت القلم لأكتب مقالاً أو لأخطّ كتاباً ماكان أمامي هدف سوي حلّ المشاكل والإجابة علي الأسئلة المطروحة في الشؤون الإسلامية المعاصرة. كتاباتي بعضها فلسفي، وبعضها أخلاقي وبعضها اجتماعي وبعضها تاريخي، ومع اختلاف موضوعات هذه الكتابات فإنها توخّت هدفاً واحداً لا غير». «الدين الإسلامي الحنيف دين مجهول، حقائقه قد انقلبت بالتدريج في نظر الناس، والسبب الأساس في إعراض طائفة من الناس هو المفاهيم الخاطئة التي قُدِّمت باسم هذا الدين. هذا الدين المقدس يتعرض في عصرنا الراهن أكثر من أي شيء آخر إلي إساءة بعض أدعياء حماية الدين». «هجوم الاستعمار الغربي من جانب، بعملائه المرئيين وغير المرئيين، وقصور أوتقصير كثير من أدعياء حماية الإسلام في هذا العصر من جانب آخر، أدّي إلي تعرّض الفكر الإسلامي باستمرار في الحقول المختلفة أصولاً وفروعاً إلي هجوم غادر». «من هنا فإنني العبد الضعيف رأيت أنّ واجبي يفرض عليّ العمل في هذا الميدان قدر استطاعتي..» «لا أدّعي طبعاً أن الموضوعات التي تناولتها في كتاباتي كانت من أهم الموضوعات، ولكني أستطيع أن أدّعي بأني لم أتجاوز نطاق حل المسائل المستعصية في الفكر الإسلامي وعرض المفاهيم علي حقيقتها بقدر الإمكان، وإن لم تستطع هذه الكتابات أن تحول دون الانحرافات علي الصعيد العملي، فلعلها تستطيع أن تقف بوجه الانحرافات الفكرية وخاصة في المجالات التي يتذرع بها أعداء الإسلام. وفي هذا المجال حاولت، حسب تشخيصي رعاية الأولويات»(18) . الأستاذ مطهري وجد أن مهمته الأولي هي تقديم الإسلام بلسان العصر، أو بعبارة أخري الجمع بين «الأصالة» و«المعاصرة»، وبدون ذلك فإن الاتجاه الفكري في المجتمع الإسلامي سيتخذ أحد سبيلين: إما التقوقع والتخلف والابتعاد عن روح العصر، وإما تحريف الإسلام باسم التقدمية والبروتستانتية، وإلي هذا يشير الأستاذ الشهيد في تحذيره روّاد النهضة الإسلامية إذ يقول: «أنا باعتباري فرداً أحسّ بمسؤوليتي الإلهية أوجه تحذيري إلي زعماء النهضة الإسلامية العظام، وأتم الحجة بيني وبين رب العالمين وأقول لهم: إن نشر الأفكار الغربية والتقاطها باسم الفكر الإسلامي بعد إضفاء الطابع الإسلامي عليها، سواء كان ذلك عن سوء نية أو عدم سوء نية، خطر يهدد كيان الإسلام». «طريقة مواجهة هذا الخطر لا تتثمل في المنع والحظر، وهل يمكن منع العطشي المتلهفين إلي الماء من تناول الماء بحجة أنه ملوث؟!! إنها مسؤولياتنا التي تفرض علينا أن نقدم كتباً بلغة العصر في الحقول الإسلامية المختلفة، لو أننا عرضنا ماء قُراحاً سلسبيلاً بالمقدار الكافي لما اتجهوا إلي الماء الملوّث…». «طريق المواجهة هو عرض المدرسة الإسلامية بشكل صحيح في كل المجالات وبلغة العصر. حوزاتنا العلمية التي تموج اليوم بالنشاطات الاجتماعية يجب أن تعي مسؤوليتها العظيمة العلمية والفكرية. يجب أن تضاعف أعمالها العلمية والفكرية عشر مرات. يجب أن تعلم أن الاقتصار علي الدراسات الفقهية والأصولية الرسمية لا يلبي حاجات الجيل المعاصر»(19) . وهكذا يلخّص الأستاذ مطهري نشاطه الفكري والثقافي لإحياء الدين في المجتمع، ونجد مصداق ذلك فيما كتبه الأستاذ من مقالات وألقاه من محاضرات ودوّنه من كتب. فهو قد جمع أولاً بين مختلف احتياجات المجتمع الفكرية، ابتداء بالفلسفة الإسلامية المعمّقة التي طرحها من خلال تعليقه علي كتاب: «أصول فلسفة وروش رئاليسم = أصول الفلسفة وطريقة الواقعية»، في خمسة أجزاء، وانتهاء بكتابة القصص التربوية المبسطة المستقاة من السيرة والتاريخ الإسلامي في كتابه «داستان راستان» = «قصص الأبرار» في جزئين. لقد استطاع مطهري أن يطرح القضايا الفلسفية من خلال معالجة الواقع الاجتماعي، كما فعل في «علل گرايش به ماديگري» = (أسباب النزوع إلي المادية)، وفي «عدل إلهي» كما طرح الخطوط العامة لنظرة الإسلام إلي الكون والحياة، في عدة كتب تعالج موضوع التوحيد والنبوة والقيامة(20) . كما كتب دروساً في العلوم الإسلامية كالعرفان والفلسفة والمنطق والكلام؛ وقارع النظرية المادّية وتفسيرها للتاريخ والمجتمع في كتب عديدة(21) ؛ وتناول قضية المرأة في عدد من الكتب والمقالات(22) ؛ وحارب الالتقاط من خلال الكشف عن زيف الالتقاطيين وخوائهم الفكري؛ وله في تفسير القرآن وربط القرآن بالحياة دروس ومحاضرات ومقالات؛ وله في توضيح المفاهيم الإسلامية وبيان الانحرافات التي تراكمت علي هذه المفاهيم باع طويل أيضاً. كلّ هذا يمثل جهداً متواصلاً استمر قرابة ثلاثين عاماً في الجمع بين «الأصالة» و«المعاصرة» من أجل إحياء الإسلام في مجتمع تكالبت عليه قوي الشر والضلال والانحراف لتبعده عن المسيرة الإسلاميّة الصحيحة. ولا يفوتنا أن نذكر هنا جهوده المبذولة من أجل استنهاض الهِمم وتحريك الطاقات وغرس روح التحرك وروح العمل والجهاد والشهادة في المجتمع، فقد كان لها تأثير كبير علي دفع القطاعات المتقوقعة المنزوية إلي ساحة النشاط الاجتماعي الرسالي، وعلي إزالة الأفكار والمفاهيم السلبية التي عشعشت طويلاً في أذهان الفئة المتدينة التقليدية تجاه العمل السياسي والنشاط الاجتماعي الإسلامي(23) . بقي أن نؤكد هنا أن الجهاد الفكري الطويل، الذي خاضه الشهيد مطهري، لا يعني انصرافه عن الجهاد من أجل القضاء علي النظام السياسي الظالم الحاكم في المجتمع. كل مصلح إسلامي حقيقي مخلص لايمكن أن ينسي مهمة تحرير الأمة ورفع الظلم عنها وهويخوض معترك الصراع الفكري. الشهيد محمد باقر الصدر – مثلاً – مع كونه رائد الفكر الإسلامي المعاصر، يري أن صفة محاربة الظالمين لا تنفك عن الإسلام وعن حركة الإنسان المسلم والمجموعة المسلمة، غير أن الظروف والملابسات هي التي تفرض طريقة ممارسة هذه الصفة(24) . ويري أن نزعة «الانتقام من الجبارين» نزعة تكاملية لا يمكن للإنسان السائر علي طريق الله أن يتخلي عنها(25) . والأستاذ الشهيد حسن البنا عُرف بدعوته الفكرية والأخلاقية والتربوية، لكنه مثل سائر العاملين المتلزمين المخلصين كان يؤكد علي ضرورة إعداد القوة اللازمة للمعركة العنيفة ضد الباطل. وجاء هذا التأكيد واضحاً في قوله: «وفي الوقت الذي يكون فيه منكم – معشر الأخوان المسلمين – ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة. في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبّار، فإني فاعل إن شاء الله ..» (26) . وهذا المفكر المسلم أبو الأعلي المودودي يشير إلي عقم الاكتفاء بأسلوب الوعظ والإرشاد فيقول: «يصبح من العبث الدعوة إلي الإسلام علي طريقة التبشير المسيحي. ولو طُبعت ملايين النشرات تدعو إلي التمسك بالإسلام وتصيح بالناس أن (اتقوا الله) صباح مساء، لما كانت ذات فائدة تذكر، إذ ما هي الفائدة العملية التي ستنجم عن تأكيد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأن فوائده ومزاياه ليس لها مثيل عن طريق القلم والخطابة؟! إن حاجة العصر تتطلب إبراز هذه المزايا بصورة عملية في عالم الواقع.. إن مشاكل العالم المادية لن تحلّ بمجرد القول بأن الإسلام يملك حلها. إن قيمة الإسلام الذاتية لابد وأن تبرز إلي الوجود في هيئة نظام عملي مهيمن يلمس الناس آثاره ويجنون ثماره.. إننا نعيش في عالم يقوم علي الصراع والكفاح. والخطابة والوعظ لن تفلح في تغيير مجراه، ولكن الكفاح الثائر وحده هو الذي يستطيع ذلك»(27) . والمودودي لا يريد أن يستهين طبعاً بدور الكلمة في الدعوة إلي الله، وهو الكاتب والواعظ والخطيب، بل يردّ علي الذين يقنعون أنفسهم بالاكتفاء بالكلمة، إنه بعبارة أخري يردّ علي تجار الكلمة وعلي المهزومين نفسياً أمام بطش الجبارين، ويؤكد أن الكلمة الجادة المخلصة لاتفترق عن الحركة الجادة، وعن الكفاح الثائر. والعمل الجاد هو الدليل الوحيد علي صدق جدية الكلمة. الشهيد مطهري كان أيضاً من المؤمنين بأن التغيير الاجتماعي في المنظور الإسلامي لا يمكن أن يتحقق دون ثورة كاملة تطيح بالظالمين، لكن هذه الثورة لا يمكن أن يُكتب لها البقاء، ولا يمكن صيانتها من الزلل والانحراف إلا إذا ساندتها نهضة فكرية عميقة أصيلة تقدم الإسلام في جميع مجالات الحياة وفق مقتضيات العصر. يقول: «.. كل نهضة اجتماعية يجب أن يكون لها سند من نهضة فكرية وثقافية، وإلا فسوف تقع في فخ التيارات التي تمتلك ثروة فكرية، وتتجه نحو هذه التيارات فتغيّر مسارها. وقد رأينا أن الجماعات الفارغة من الفكر الإسلامي كيف سقطت كالذبابة في أوتار بيت العنكبوت»(28). ويقول في موضع آخر: «.. لو استيقظ الشرق واكتشف هويته الإسلامية، فلا تستطيع حتي القنبلة الذرية أن تصد هذه القوة العظيمة، وهذه الجماهير الثائرة. وطريق اليقظة التعرف علي تاريخنا وثقافتنا وإيديولوجيتنا..» (29) . كانت هذه وقفة قصيرة ضرورية – في خاتمة مطافنا – عند حقيقة هامة هي أن الشهيد مطهري، مثل سائر كبار المصلحين الإسلاميين المعاصرين ودعاة إحياء الفكر الإسلامي، لم يكن يري العمل الفكري منفصلاً عن العمل الاجتماعي في المجتمع، بل كان يري عملية الإحياء الفكري مقدمة ضرورية للتغيير الشامل، وضماناً أكيداً لسلامة المسير وللوقاية من الزلل والانحراف. والحمد لله أولاً وآخراً. الهوامش: 1 -إحياء الفكر في الإسلام، مطهري، ترجمة آذرشب، ط 1، طهران 1402هـ ، ص 13. 2 - انظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي، دار الفكر، بيروت؛ وكتاب: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، الندوي، القاهرة 1977م. 3 - فراموشخانه وفراموسنري در إيران (بالفارسية) إسماعيل رائين، طهران، منشورات أمير كبير. 4 - أنديشة ترقي وحكومت عصر سبهسالار (بالفارسية)، فريدون آدميّت، ط 2، ص 45 – 48. 5 - نفس المصدر، ص 103 و 104. 6 - مقدمه فكري نهضت مشروطيت (بالفارسية) د. علي أكبر ولايتي، ص 80، ط 3، طهران 1986. 7 - تحقيق در أفكار ميرزا ملكم خان (بالفارسية) نورايي، ص 102، طهران 1352هـ . ش. 8 - أنديشة ترقي..، آدميت، ص 64-65. 9 - تشيع ومشروطيت در ايران (بالفارسية)،عبدالهادي حائري، منشورات أمير كبير، ط 1، طهران 1360هـ.ش 10 - أنظر: أنديشه هاي ميرزا فتحعلي آخوند زاده (بالفارسية) ، فريدون آدميّت. 11 - وهي محاربة الدين طبعاً، ومحاولة إزالته من المجتمع باسم الإصلاح. 12 - تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل (بالفارسية)، فضل الله نوري، ص 18 13 - انظر: ازگاتها تا مشروطيت (بالفارسية)، محمد رضافشاهي، ص 392، طهران 1354هـ . ش تاريخ مشروطه إيران (بالفارسية)، أحمد كسروي، ص 62، ط 12، طهران، منشورات أمير كبير. 14 - مسائل الحيات (بالفارسية)، عبدالرحيم بن شيخ أبوطالب، ص 49، مطبعة غيرت، تفليس 1324هـ .ق. 15 - انظر: سقوط حزب توده، محمد علي آذرشب، منشورات منظمة الإعلام الإسلامي، طهران. 16 - انظر: ماترياليسم در إيران (بالفارسية)، مطبوع مع كتاب: علل گرايش به ماديگري، مطهري، ص 5 – 53، ط 8، طهران 1357هـ . ش. 17 - سيري در آثار استاد شهيد مطهري (بالفارسية)، ستاد بزرگداشت سالگرد استاد، ص 20-21، طهران 1359هـ . ش. 18 - عدل إلهي (بالفارسية)، مطهري، ص 8 و 9. 19 - نهضت هاي إسلامي در صد سال أخير (بالفارسية) ، مطهري، ص 75 20 - مثل كتاب: الإنسان والإيمان، والتصور التوحيدي ، والوحي والنبوة، والحياة الخالدة، وقد ترجمنا هذه السلسلة من الكتب مع إضافة مقدمات وتعليقات عليها في سلسلة «مقدمة في التصور الإسلامي» منشورات مؤسسة البعثة، طهران. 21 - انظر: المجتمع والتاريخ، في جزئين ترجمناهما من الفارسية مع مقدمة وتعليقات وملحقين ، منشورات مؤسسة البعثة، طهران. 22 - انظر: مسألة الحجاب، ونظام حقوق المرأة، الشهيد مطهري ، ويذكر أن معظم محتويات الكتاب الثاني نشرها الأستاذ في مجلات نسوية كانت تنشر في زمن نظام الشاه، وكانت هذه المجلات منحرفة تُدار بيد منحرفين، لكن الاستاذ الشهيد اقتحمها، غير مبال بنهج المجلة، من أجل أن يوصل كلمة الإسلام إلي القطاع النسوي الإيراني بمختلف اتجاهاته. 23 - انظر إحياء الفكر في الإسلام، حيث يركز الأستاذ علي مفهوم العمل والحركة في الإسلام، وكتاب: شهيد يتحدث عن شهيد، حيث يوضح الأستاذ معني الشهادة والشهيد، ويبين المكانة التي يتمتع بها الشهيد في المفاهيم الإسلامية، ويستعرض صوراً من عظمة مواقف شهداء الإسلام، الكتابان من ترجمتنا ومنشورات مؤسسة البعثة، طهران. 24 - رسالتنا، مقال: رسالتنا فكرية انقلابية. 25 - خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، الشهيد الصدر، فصل مسار الخلافة علي الأرض. 26 - مشكلات الدعوة والداعية، فتحي يكن، ص 230. 27 - رسالة: داء المسلمين ودواؤهم، المودودي، ص 15 28 - نهضت هاي اسلامي در صد سال أخير (بالفارسية)، مطهري، ص 74 29- بيرامون انقلاب إسلامي (بالفارسية) ، مطهري، ص 125 ثقافتنا - العدد 6 فكر إسلامي محمد علي آذرشب (استاذ في جامعة طهران) 1426
رایکم
الاسم:
البرید الإلکتروني:
* التعلیق:
جدید‬ الموقع