إنَّ اللعب بالمصطلحات طريق سلكه المستشرقون والتغريبيون من أجل تشويه الإسلام والتلبيس على المسلمين، ومَنْ سوَّلت له نفسه الدخول في هذا الدين، وخاصة عندما رأوا الإقبال على هذا الدين بكثرة في بلاد الغرب، فتارة يستخدمون اصطلاحات مُلبسة، وتارة يُحرِّفون في ترجمة تفاسير القرآن العظيم وأحاديث النبي الكريم، كما فعل أسلافهم من كفار قريش قديمًا عندما كانوا يقفون على أبواب مكة، ويحذِّرون الوافدين إليها من التأثُّر برسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - واصمين إياه بالسِّحر والجنون... إلخ.
العولمة ونشر المصطلحات:
لقد استخدم أعداءُ الإسلام آليات العولمة التي تمتلكها بلادهم، بل وتسيطر عليها، بل وتحتكرها - في نشر الأغاليط المصطلحية؛ من أجل تشويه صورة الإسلام، وكذلك دعوا لنشر الانحدار القيمي، مثل ما خلَّفته الدول المستعمرة لبلدان الشرق الإسلامي؛ إذ فرضت قيمها وأخلاقياتها بقوة على الشباب المسلم في شتى البقاع، وزرعت بؤرًا للإثارة ونشر الفاحشة وترويج ثقافة الجنس والمخدرات، فصرْنا نسمع مصطلح "الصديقة أو الخليلة"، بدلاً من "الزانية" أو من يرتكب معها الإثم، وصرْنا نسمع مصطلح "الأم العازبة"، بدلاً من المرأة التي ولدت من زنا... إلخ.
فكثيرًا ما يتعَّرض المسلمون للحملات الإعلامية التي تهدف للحطِّ من قدرهم، وتشويه سمعتهم؛ بغية إبعاد الناس عنهم وعن دينهم، فقد صار من المُسلَّم به في كثير من بلدان الغرب وَصْمُ المسلمين بالإرهابيين، برغم ما قِيلَ عن التعاطي مع الآخر والتواصل معه، وما أبداه الدعاة المسلمون من تسامح وإخاء، فقد أصرَّت هذه النعرة العدائية على البقاء والاستمرار، وبلغت أوجَها في الاعتداء على المسلمة مروة الشربيني باعتبارها رمزًا للإرهاب في نظر النازيين الهمجيين، وغيرهم من الذين لا يَرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذِمَّة، وبرغم التصريحات الرنانة والوعود البرَّاقة، لم تقدِّمْ المستشارة (ميركل) أيَّ اعتذار لمصر حتى الآن؛ وهو ما يؤكِّد مدى رسوخ العداء والتعالي والتكبُّر الذي يجري في دم هؤلاء الغربيين.
الإسلام والإرهاب:
تُرى هل وضع دين الإسلام منهجًا للحدِّ من ظاهرة الإرهاب، أم أنه أباحها ولم يمنعها؟ لا بدَّ أولاً من تحديد معنى الإرهاب لغةً واصطلاحًا؛ إذ إن أمريكا ومعها كثير من دول العالم تعتبر كل أنواع المقاومة ضدَّ احتلالها وأصدقائها إرهابًا! وهذا مخالف للأحكام الشرعية وللمواثيق الدولية.
جاء في لسان العرب: " أَرْهَبَ الرَّجُلُ إِذا رَكِبَ رَهْبًا، وهو الجَمَلُ العالي، وفلانٌ طال رَهبهُ؛ أي: كمُّه، وفلانًا خوَّفهُ، والبعير فذعهُ عن الحوض".
فالإرهابُ إذًا هو الاعتداء على الأبرياء والمدنيين بالترويع أو الخطف أو الإيذاء، أو القتل أو غير ذلك، مما يُعتبر اعتداءً وترويعًا.
وبهذا المعنى فإن الإسلام منع كلَّ وسائل هذا الإرهاب، ابتداءً من العنف الكلامي الذي نهى عنه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطلب من المسلمين الالتزام بالرفق واللين والكلمة الطيبة، وصولاً إلى القتل وهو أشدُّ أنواع الاعتداء، وقد نهى القرآن صراحةً عنه؛ قال – تعالى -: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة : 32]، ولم يسمح بالقتل إلا ضِمنَ شروطٍ ضيقة جدًّا، وهي شروط مُعتبرة في أكثر قوانين العالم، أما إذا وقع الإرهاب من أحد الناس؛ فإن الأحكام الشرعية توجب معاقبته بما يتناسب مع الجريمة التي اقترفها، وليست هناك عقوبة واحدة محدَّدة؛ لأن أنواع الجرائم التي تُرتكب عن طريق الإرهاب مختلفة بشكل واسع؛ فقد تكون اعتداءً جسديًّا، أو نفسيًّا، أو قتلاً، أو خطفًا، أو سرقةً، أو غير ذلك، وكلُّ جريمة من هذه الجرائم لها عقوبتها المناسبة، وقد تكون هذه العقوبة حدًّا منصوصًا عليه، وقد تكون تعزيرًا متروكًا تقديره لولي الأمر.
جهاد لا إرهاب:
إن الإرهاب المقصود الذي تُطالب أمريكا وأعوانها الدولَ العربيةَ بالتعاون معها من أجل مكافحته - هو في كثير من حالاته جهاد في سبيل الله وحقٌّ مشروع، كما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان؛ ومن هنا فلا يجوز للدول العربية التعاون مع أمريكا في هذا المجال، بل لا بدَّ من تبيين الحقائق وإزالة اللبس.
كما أننا نؤكِّد أنَّ على أمريكا قبل أن تطلبَ من غيرها التعاون معها لمكافحة الإرهاب، عليها هي أولاً أن تُقلعَ عن كل أنواع الإرهاب الذي تقوم به ضدَّ الشعوب والدول العربية والإسلامية، وغيرها من دول العالم أيضًا، فإنها حين تُقلع عن ممارسة هذا النوع من الإرهاب يكون من حقِّها أن تطالبَ الآخرين بالتعاون معها؛ لمحاربة الإرهاب الحقيقيِّ الذي هو اعتداء على الآمنين دونما وجه حقٍّ.
ولكن من الذي أعان الصهاينة في الهجمة البربرية على أبرياء غزة، أوليست أمريكا، التي تزعم أنها تحارب الإرهاب؟!
معنى الإرهاب في القرآن:
لقد تحدَّث القرآن عن إرهاب الأعداء فقال – تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال : 60]، معناه: تُخِيفون به عدوَّ الله وعدوَّكم، فلفظة (ترهبون) هنا ليس معناه الإرهاب المعروف في هذا العصر، فكلمة (إرهاب) في هذا العصر تحتاج منَّا إلى تعريف صحيح وواضح يخرج المجاهدين في سبيل الله، والذين يناضلون من أجل استرداد أوطانهم وحماية دينهم وعرضهم مثلاً من دائرة الإرهاب والإرهابيين.
فكلمة (ترهبون) معناها: تخيفون؛ لأن العدوَّ إذا خاف كف عن عدوانه، وامتنع عن ظلمه، والله - عز وجل - لا يأمر المسلمين بقتال من لم يقاتلوا؛ قال – تعالى -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة : 190]؛ فالإسلام دين السلم، والحرب في دستور الإسلام ضرورة، لدفع العدوان؛ لأن الله - عز وجل - يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة : 193]، ويقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال : 61] ، هذا هو الإسلام الذي يميل للسِّلم ولا يلجأ للعدوان إلا اضطرارًا.
فمنذ الهجمة الغربية على العالم الإسلامي، ويحدث ما يسمى باحتلال واحتكار إطلاق المصطلحات من مفهوم غربي؛ وهو ما أدى إلى اختلال في الفهم، وضياع لمعاني اللغة التي هي وعاء الفكر.
والإرهاب في أصله الأول لفظة قرآنية الغرض منها صدُّ المعتدين وتخويف المجرمين، وإرجاع الناس إلى الطريق القويم، ومنعهم من الفساد في الأرض.
فظهر أن الإرهاب إنما يكون لعدوِّ الله وعدوِّ المؤمنين وللمنافقين، ولكن ابتذلت الصحافة والإعلام هذا المصطلح القرآني حتى عاد مرادفًا للعدوان، ومرادفًا للظلم والطغيان، وقَتلِ المدنيين والأبرياء، وخَلطِ الأوراق، وسوء النية، إلى غير ذلك مما يأباه كلُّ مسلم على وجه الأرض؛ قال – تعالى -: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة : 87].
اقتتال المسلمين:
إن الاقتتال بين المسلمين من حيث الأصلُ لا يجوز، وقد قال الله – تعالى - في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء : 92]، كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا التقى مسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه))، ومن هذا الحديث يتضح أنه إذا وقع القتال بين المسلمين، فلا يجوز لأحدهم أن يكون حريصًا على قتل صاحبه؛ لأنه إذا اكتفى بالدفاع عن النفس بما هو أقلُّ من القتل، فهو لا يدخل تحت التهديد النبوي بأن يكون في النار.
إن أكثر الدوافع التي تؤدي للقتال بين المسلمين غير جائزة، سواء أكانت طلبًا لمصالح مادية، أو حَميَّة لعصبية قبليَّة، أو تغليبًا لمذهب فقهيٍّ، أو غير ذلك.
أمَّا الدافع الوحيد الذي يجعل القتال مشروعًا، فهو أن يكون هذا القتال مع الإيمان الشرعي ضدَّ البُغاة الخارجين عليه، وهذا يستلزمُ أن يكونَ الإمام قد تسلَّمَ السلطة عن طريق اختيار أهل الحَلِّ والعَقد، وأن يكون ملتزمًا بالأحكام الشرعية، في هذه الحالة يعتبر الخارجون عليه بُغاة يجوز له قتالهم، ويجب على المسلمين أن يقاتلوهم معه، أمَّا في غير هذه الحالة، فكل أنواع القتال بين المسلمين غير جائزة إلا في حالة الدفاع عن النفس كما أشرنا.
تاريخ المسلمين يزخر بالسماحة:
إن تاريخ المسلمين تاريخ بريء من محاكم التفتيش، وإبادة الشعوب، والتمييز العنصري، ومن الاستعمار، والعدوان، ولما أَسَر المسلمون العبيد من أوروبا علموهم وسيَّروهم حُكَّامًا للبلاد، وسموهم بالمماليك.
والمسلمون لم يُبيدوا شعوبًا كالهنود الحمر وسكان أستراليا، ولم يقوموا باستعمار أي مكان في العالم، بل لما دخلوا البلاد التي فتحوها دعوا إلى الله وتزوجوا من أهل الديار، حتى صار الأبناء مسلمين عبر التاريخ بالتدريج، فلم يُجبر أحدٌ على ترك دينه لدرجة أن المسلمين في الهند أقليَّة، وقد حكموها، وكان في استطاعتهم إخراج الناس من الهندوسية بالقوة وحدِّ السيف.
لقد حكا المؤِّرخ المقريزي في خُططه أن قرية بصعيد مصر على عصره - وهو القرن الثامن الهجري - ما زالت تتكلمُ بالقبطية، فهذا حال المسلمين، فليس لديهم قائمة جرائم يعتذرون عنها، كما أن هناك قائمة ضد الفاتيكان، أو ضد الأمريكان، أو ضد غيرهم من الشعوب التي أذلَّت الإنسان واعتدت عليه، بل وجاوزت في اعتدائه حدَّ الوحشيَّة والهمجيَّة.
فعلينا - نحن المسلمين - أن نعتزَّ بديننا وتاريخنا، ونرفع رؤوسنا في العالمين، ونعلم أن هؤلاء الغربيين المعتدين يتهمون المسلمين من غير بيِّنة ولا بُرهان، ولا دليل، بل إنهم يعتدون عليهم ويصطدمون بهم، ويقتلون أبناءهم ونساءهم وضعافهم، ويحتلُّون أراضيهم دونما وجه حقٍّ، فمن الإرهابي إذن؟!
جمال عبدالناصر